بقلم : أ.د احمد صالح قطران
الطريق الوحيد للنهوض بالأمة
ثقافة الالتزام تقوم على أساس أن الفرد رقيب ذاته،وعلى أساس تقديس أو احترام موضوع الالتزام، فالفرد يلتزم للالتزام ذاته ، يلتزم لا لأن ثمة مقابل سيحصل عليه بسبب التزامه، فكما يلتزم توقي تناول السم لقناعته أنه سيموت إذا تناوله،و يلتزم توقي لمس النار لقناعته أنها ستحرقه إذا لمسها ،يجب أن يتثقف الفرد والمجتمع بثقافة الالتزام ويعتبرونها مسألة مصير وبدونها يكون الهلاك.
وغايات التشريعات سواء الوضعية أم السماوية تهدف إلى تنظيم سلوك الأفراد والجماعات بما يحقق مصالح المجتمع ويسير به نحو التعايش. وكل التشريعات تحرص على إنبات ثقافة الالتزام ، وأن أي عقوبة فيها إنما تهدف إلى إعادة المخالف إلى مربع ثقافة الالتزام،وتحقق القوانين نجاحاً جيدا عندما تطبق بعدالة ومساواة على أساس المواطنة أما إذا شابها شيء من الميل، فإن الفشل الذريع هو حليفها الدائم .ولا سبيل للبشرية إلا أن تتوافق على قوانين تنظيم حياتها ومسيرتها وتسعى للالتزام بتلك القوانين سعياً إستراتيجيا، حتى تترسخ فيها ثقافة الالتزام.
أما الشرايع السماوية – ومنها الإسلام الذي ندين به- فإن ثقافة الالتزام فيه تأخذ منحىً عبادياً يخاطب به الفرد، فالمخالف تردعه عقوبتان إحداهما قضائية وتتم في الدنيا، والأخرى ديانية وتتم في الآخرة، فإذا نجا من الأولى لعدم القدرة على إثباتها بوسائل الإثبات، فلن ينجو من الثانية؛لأن الشاهد فيها هو الحكم العدل جل جلاله. ومسئولية التطبيق في المجتمع الإسلامي جماعية وفردية، بينما مسئولية المحاسبة في الآخرة فردية، وليس لمن يخالف القانون في الإسلام أن يحتج بأن فلانا من الناس خالف القانون، وليس له أن يحتج بأن الأمير أو الخليفة أو الرئيس خالف القانون. لأن مثل هذه المحاجة تكون في وجه من أصدر القانون الوضعي الذي إذا خالفه أمكن القول أنت خالفت ما وضعت يمينك، فكيف تريد من غيرك أن يلتزم به.
أما في التشريع السماوي، فالأمر مختلف ،فمصدر القانون حرم مخالفته على نفسه ولم يخالفه قط والتطبيق الأول للقانون الإسلامي تم على أناس جبلوا على الالتزام وعصموا من الزلل فكان تطبيقهم للقانون تطبيقاً نموذجياً، ومن خالف القانون منهم كان يعاقب مباشرة وكان عبرة لمن أعتبر .
وعليه فإن ثقافة الالتزام لها وجهان .
أحدهما: الوجه الدنيوي وهو أن ثقافة الالتزام ينبغي أن ترتكز على احترام حق الآخر أو حق المجتمع لذات الحق دون انتظار المقابل المباشر، مع اليقين أن الالتزام واحترام حق الآخر(حق المجتمع) سيعود عليه بالنفع الدنيوي، وهذا الشعور إن وجد حقق للبشرية الكثير مما تصبو إليه من الأمن والاستقرار، ويكفي أن يتحقق هذا الشعور في الغالبية؛ لأن تحققه في كل البشر مستحيل،وهذا الوجه نجحت عدد من الشعوب في زراعته في الكثير من مواطنيها،فحققت نجاحا دنيويا باهرا.
والآخر: الوجه الأخروي ، وهو يرتكز على أساس أن الملتزم سيلقى نتيجة التزامه في الآخرة، وهذا أبعد من الشعور باحترام حق الآخر أو باحترام حق المجتمع مع اليقين بالفائدة المرجوة في الدنيا، فالأمر هنا أبعد من ذلك ، وأكثر تأثيراً وإيجابية فالملتزم هنا لا ينتظر المصلحة الآنية الطبيعية المتوقعة أو التي يُعد انتظارها من البدهيات أو يتساوق مع طبيعة البشر التي تنظر إلى المقابل ، فيكون تحمس الإنسان للالتزام الذي له مقابل آني أكثر، بينما تحمسه للالتزام بالشيء الذي لا مقابل له أقل،أو قد يكون تحمسه منعدماً، أما في القانون الإسلامي ،فالأصل في الالتزام أنه بلا مقابل دنيوي، وإنما يكون لنتيجة(مقابل)أخروية(أن لا تطلب لعملك شاهدا إلا الله).
وهنا يرد سؤال وهو: هل القانون الإسلامي يجمع بين الوجهين، وهو الالتزام انتظارًا لمرجو آني، والالتزام انتظارًا لمرجو غير آني(مردود أخروي) ؟.
الإجابة نعم ،إذ ليس في الإسلام ما يمنع على الإنسان أن ينتظر جزاء التزامه،بل جعل المقابل واجب الوفاء من صاحبه كما هو في الالتزام بالعقود. وهذا النوع من الالتزامات منح الإنسان خياراً أنه إذا لم يكافئ يترك الالتزام،وإذا قام بالالتزام وجب عليه الالتزام به وفقا لما هو متفق عليه، وإذا قصر عوقب ديانة وقضاء. وهنا ينبغي أن أنبه إلى أن الالتزام يجب أن يكون لذات الالتزام لا لغيره، وإن أخذ الملتزم على نتائجه مقابل، وهو ما نسميه بالإتقان والإخلاص.
كيفية استنبات ثقافة الالتزام.
وهنا نشير إلى عدد من الخطوات لاستنبات ثقافة الالتزام.
الخطوة الأولى : أقناع الذات بضرورة الالتزام وهذا الإقناع يحتاج إلى مراغمة ويحتاج تغيير لكثير من المفاهيم المتراكمة ،وهي مصفوفة تبدأ من اللامبالاة… إلى ترديد وأنا ماذا سأفعل ؟ وأنا كم يكون دوري؟ وأنا كم سأصلح ، وأنا كم سيكون تأثيري ؟ ما أنا إلا واحد واليد الواحدة لا تصفق ، ومخرب غلب ألف عمار ….. الخ هذه السلسلة ، لأن الإقناع أو الإقتناع الداخلي أهم خطوة في التغيير وهذا ما أشار إليه القرآن بقوله:﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ٍ﴾ (الرعد/11).
فلم يقل حتى يغيروا أسلوب حياتهم،أو يغيروا طريقة كلامهم ، أو طريقة حركاتهم ، وإنما قال(ما بأنفسهم) وهي ما تعني تغيير القناعات الداخلية تغيير ما بالنفس ما بالداخل من مفاهيم سلبية عن الذات، وإبدالها بمفاهيم إيجابية عنها
فالقناعة بوجود المرض والرجاء بالشفاء أول خطوات علاج المريض،فإذا ما اعتبرنا أنفسنا أمراضا بثقافة الفوضى والتفلت، فأول الخطوات الإقتناع أننا مصابون بهذا الداء العضال،لأنها ثقافة الفوضى والا التزام ثقافة تدميرية، ثقافة الفشل، ثقافة التقهقر، ثقافة العوز ثقافة الذل ، ثقافة كل سوء.
الخطوة الثانية: الإقتناع بضرورة الالتزام ، وأهميته في حياة الشعوب وبناء الحضارات والأمم، وأهميته في تحصيل النجاح واستدامته، وأن الالتزام هو أساس التطور والتنمية.
الخطوة الثالثة : الإقتناع بقدراتنا على الالتزام، وأننا كبقية خلق الله نقدر أن نرغم أنفسنا على الالتزام والسير في الطريق السوي كما سارت الأمم المتحضرة ، بل وعلى العكس نحن إلى جانب أننا بشر كبقية البشر الذين حققوا نجاحات،فإننا نمتلك ثقافة جبارة وموروثاً حضارياً جباراً فيه من نماذج الالتزام والنظام شواهد أكثر من أن تحصى، فهذه المدرجات الجميلة والسدود العظيمة والدور والآثار الممتدة لم تأتي إلا نتيجة ثقافة الالتزام .
الخطوة الرابعة : الإنطلاق إلى ثقافة الالتزام أفراداً وجماعات دون تردد أو تسويف كل في موقعه؛ لأن القناعة بأهمية الالتزام، وقدرتنا على التثقف بهذه الثقافة الراقية، لا يكفي، فلا بد من الممارسة العملية لهذه الثقافة، ولقد صدق شوقي حينما قال:(ما أصعب الفعل على من رامه وما أسهله على من أراد).
فالعامل يجب أن يعلم أنه يجب عليه أن يتقن عمله إتقاناً كاملاً، ويسعى إلى ذلك، ورب العمل يجب أن يعلم أنه لا بد أن يؤدي أجر العامل كاملا في الوقت المتفق عليه، ويسعى إلى ذلك ، والموظف يجب أن يلتزم بواجبات وظيفته- ابتداء- من بداية الوقت المخصص لها إلى نهايته،ويلتزم بما تمليه القوانين واللوائح المنظمة لعمله، ولا بد أن نجتهد في ممارسة الالتزام في أخلاقنا في مواعيدنا،وتصرفاتنا وكل جزئية من جزئيات حياتنا ، لأننا إذا لم نتثقف بثقافة الالتزام، فإننا لن نتقدم خطوة واحدة إلى الأمام.
لأن الالتزام بمثابة قطبي السكة الحديد، فإذا لم يلتزم القطار بالسير على قطبي السكة سيراً دقيقاً ، فإنه لن يصل إلى مبتغاه حتى ولون كان جديداً أو مليئاً بالوقود ، لأن المسألة: مقدمة سليمة تؤدي إلى نتيجة سليمة.
نماذج من ثقافة الالتزام
هنا لا بد من الإشارة إلى أن لثقافة الالتزام نماذجها الكثيرة الموجودة في حياة الإنسان، وكذا في حياتنا كمسلمين ، سنعرض إلى بعض تلك النماذج لغرض التدليل على أن التثقف بثقافة الالتزام ممكن في كل جوانب الحياة.
ونماذج الالتزام الموجودة في حياتنا كثيرة منها ما هو القسري ، ومنها ما هو الاختياري .
والالتزام القسري لا يهمنا كثيراً لأنه يتعلق بسنن أخرى ليس لنا التحكم فيها ومن تلك النماذج،التزام الدورة الدموية بالحركة المنضبطة والمستمرة ، والتزام كل أعضاء الجسم بأداء أدوارها دون تقصير .
اقرأ المزيد…