Posted by: naneeshussien | جانفي 5, 2013

ثقافة الالتزام

بقلم : أ.د احمد صالح قطران

الطريق الوحيد للنهوض بالأمة

ثقافة الالتزام تقوم على أساس أن الفرد رقيب ذاته،وعلى أساس تقديس أو احترام موضوع الالتزام، فالفرد يلتزم للالتزام ذاته ، يلتزم لا لأن ثمة مقابل سيحصل عليه بسبب التزامه، فكما يلتزم توقي تناول السم لقناعته أنه سيموت إذا تناوله،و يلتزم توقي لمس النار لقناعته أنها ستحرقه إذا لمسها ،يجب أن يتثقف الفرد والمجتمع بثقافة الالتزام ويعتبرونها مسألة مصير وبدونها يكون الهلاك.

وغايات التشريعات سواء الوضعية أم السماوية تهدف إلى تنظيم سلوك الأفراد والجماعات بما يحقق مصالح المجتمع ويسير به نحو التعايش. وكل التشريعات تحرص على إنبات ثقافة الالتزام ، وأن أي عقوبة فيها إنما تهدف إلى إعادة المخالف إلى مربع ثقافة الالتزام،وتحقق القوانين نجاحاً جيدا عندما تطبق بعدالة ومساواة على أساس المواطنة أما إذا شابها شيء من الميل، فإن الفشل الذريع هو حليفها الدائم .ولا سبيل للبشرية إلا أن تتوافق على قوانين تنظيم حياتها ومسيرتها وتسعى للالتزام بتلك القوانين سعياً إستراتيجيا، حتى تترسخ فيها ثقافة الالتزام.

أما الشرايع السماوية – ومنها الإسلام الذي ندين به- فإن ثقافة الالتزام فيه تأخذ منحىً عبادياً يخاطب به الفرد، فالمخالف تردعه عقوبتان إحداهما قضائية وتتم في الدنيا، والأخرى ديانية وتتم في الآخرة، فإذا نجا من الأولى لعدم القدرة على إثباتها بوسائل الإثبات، فلن ينجو من الثانية؛لأن الشاهد فيها هو الحكم العدل جل جلاله. ومسئولية التطبيق في المجتمع الإسلامي جماعية وفردية، بينما مسئولية المحاسبة في الآخرة فردية، وليس لمن يخالف القانون في الإسلام أن يحتج بأن فلانا من الناس خالف القانون، وليس له أن يحتج بأن الأمير أو الخليفة أو الرئيس خالف القانون. لأن مثل هذه المحاجة تكون في وجه من أصدر القانون الوضعي الذي إذا خالفه أمكن القول أنت خالفت ما وضعت يمينك، فكيف تريد من غيرك أن يلتزم به.

أما في التشريع السماوي، فالأمر مختلف ،فمصدر القانون حرم مخالفته على نفسه ولم يخالفه قط والتطبيق الأول للقانون الإسلامي تم على أناس جبلوا على الالتزام وعصموا من الزلل فكان تطبيقهم للقانون تطبيقاً نموذجياً، ومن خالف القانون منهم كان يعاقب مباشرة وكان عبرة لمن أعتبر .

وعليه فإن ثقافة الالتزام لها وجهان .

أحدهما: الوجه الدنيوي وهو أن ثقافة الالتزام ينبغي أن ترتكز على احترام حق الآخر أو حق المجتمع لذات الحق دون انتظار المقابل المباشر، مع اليقين أن الالتزام واحترام حق الآخر(حق المجتمع) سيعود عليه بالنفع الدنيوي، وهذا الشعور إن وجد حقق للبشرية الكثير مما تصبو إليه من الأمن والاستقرار، ويكفي أن يتحقق هذا الشعور في الغالبية؛ لأن تحققه في كل البشر مستحيل،وهذا الوجه نجحت عدد من الشعوب في زراعته في الكثير من مواطنيها،فحققت نجاحا دنيويا باهرا.

والآخر: الوجه الأخروي ، وهو يرتكز على أساس أن الملتزم سيلقى نتيجة التزامه في الآخرة، وهذا أبعد من الشعور باحترام حق الآخر أو باحترام حق المجتمع مع اليقين بالفائدة المرجوة في الدنيا، فالأمر هنا أبعد من ذلك ، وأكثر تأثيراً وإيجابية فالملتزم هنا لا ينتظر المصلحة الآنية الطبيعية المتوقعة أو التي يُعد انتظارها من البدهيات أو يتساوق مع طبيعة البشر التي تنظر إلى المقابل ، فيكون تحمس الإنسان للالتزام الذي له مقابل آني أكثر، بينما تحمسه للالتزام بالشيء الذي لا مقابل له أقل،أو قد يكون تحمسه منعدماً، أما في القانون الإسلامي ،فالأصل في الالتزام أنه بلا مقابل دنيوي، وإنما يكون لنتيجة(مقابل)أخروية(أن لا تطلب لعملك شاهدا إلا الله).

وهنا يرد سؤال وهو: هل القانون الإسلامي يجمع بين الوجهين، وهو الالتزام انتظارًا لمرجو آني، والالتزام انتظارًا لمرجو غير آني(مردود أخروي) ؟.

الإجابة نعم ،إذ ليس في الإسلام ما يمنع على الإنسان أن ينتظر جزاء التزامه،بل جعل المقابل واجب الوفاء من صاحبه كما هو في الالتزام بالعقود.  وهذا النوع من الالتزامات منح الإنسان خياراً أنه إذا لم يكافئ يترك الالتزام،وإذا قام بالالتزام وجب عليه الالتزام به وفقا لما هو متفق عليه، وإذا قصر عوقب ديانة وقضاء. وهنا ينبغي أن أنبه إلى أن الالتزام يجب أن يكون لذات الالتزام لا لغيره، وإن أخذ الملتزم على نتائجه مقابل، وهو ما نسميه بالإتقان والإخلاص.

كيفية استنبات ثقافة الالتزام.

وهنا نشير إلى عدد من الخطوات لاستنبات ثقافة الالتزام.

الخطوة الأولى : أقناع الذات بضرورة الالتزام وهذا الإقناع يحتاج إلى مراغمة ويحتاج تغيير لكثير من المفاهيم المتراكمة ،وهي مصفوفة تبدأ من اللامبالاة… إلى ترديد وأنا ماذا سأفعل ؟ وأنا كم يكون دوري؟ وأنا كم سأصلح ، وأنا كم سيكون تأثيري ؟ ما أنا إلا واحد واليد الواحدة لا تصفق ، ومخرب غلب ألف عمار ….. الخ هذه السلسلة ، لأن الإقناع أو الإقتناع الداخلي أهم خطوة في التغيير وهذا ما أشار إليه القرآن بقوله:﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ٍ﴾ (الرعد/11).

فلم يقل حتى يغيروا أسلوب حياتهم،أو يغيروا طريقة كلامهم ، أو طريقة حركاتهم ، وإنما قال(ما بأنفسهم) وهي ما تعني تغيير القناعات الداخلية تغيير ما بالنفس ما بالداخل من مفاهيم سلبية عن الذات، وإبدالها بمفاهيم إيجابية عنها

فالقناعة بوجود المرض والرجاء بالشفاء أول خطوات علاج المريض،فإذا ما اعتبرنا أنفسنا أمراضا بثقافة الفوضى والتفلت، فأول الخطوات الإقتناع أننا مصابون بهذا الداء العضال،لأنها ثقافة الفوضى والا التزام ثقافة تدميرية، ثقافة الفشل، ثقافة التقهقر، ثقافة العوز ثقافة الذل ، ثقافة كل سوء.

الخطوة الثانية: الإقتناع بضرورة الالتزام ، وأهميته في حياة الشعوب وبناء الحضارات والأمم، وأهميته في تحصيل النجاح واستدامته، وأن الالتزام هو أساس التطور والتنمية.

الخطوة الثالثة : الإقتناع بقدراتنا على الالتزام، وأننا كبقية خلق الله نقدر أن نرغم أنفسنا على الالتزام والسير في الطريق السوي كما سارت الأمم المتحضرة ، بل وعلى العكس نحن إلى جانب أننا بشر كبقية البشر الذين حققوا نجاحات،فإننا نمتلك ثقافة جبارة وموروثاً حضارياً جباراً فيه من نماذج الالتزام والنظام شواهد أكثر من أن تحصى، فهذه المدرجات الجميلة والسدود العظيمة والدور والآثار الممتدة لم تأتي إلا نتيجة ثقافة الالتزام .

الخطوة الرابعة : الإنطلاق إلى ثقافة الالتزام أفراداً وجماعات دون تردد أو تسويف كل في موقعه؛ لأن القناعة بأهمية الالتزام، وقدرتنا على التثقف بهذه الثقافة الراقية، لا يكفي، فلا بد من الممارسة العملية لهذه الثقافة، ولقد صدق شوقي حينما قال:(ما أصعب الفعل على من رامه وما أسهله على من أراد).

فالعامل يجب أن يعلم أنه يجب عليه أن يتقن عمله إتقاناً كاملاً، ويسعى إلى ذلك، ورب العمل يجب أن يعلم أنه لا بد أن يؤدي أجر العامل كاملا في الوقت المتفق عليه، ويسعى إلى ذلك ، والموظف يجب أن يلتزم بواجبات وظيفته- ابتداء- من بداية الوقت المخصص لها إلى نهايته،ويلتزم بما تمليه القوانين واللوائح المنظمة لعمله، ولا بد أن نجتهد في ممارسة الالتزام في أخلاقنا في مواعيدنا،وتصرفاتنا وكل جزئية من جزئيات حياتنا ، لأننا إذا لم نتثقف بثقافة الالتزام، فإننا لن نتقدم خطوة واحدة إلى الأمام.

لأن الالتزام بمثابة قطبي السكة الحديد، فإذا لم يلتزم القطار بالسير على قطبي السكة سيراً دقيقاً ، فإنه لن يصل إلى مبتغاه حتى ولون كان جديداً أو مليئاً بالوقود ، لأن المسألة: مقدمة سليمة تؤدي إلى نتيجة سليمة.

نماذج من ثقافة الالتزام

هنا لا بد من الإشارة إلى أن لثقافة الالتزام نماذجها الكثيرة الموجودة في حياة الإنسان، وكذا في حياتنا كمسلمين ، سنعرض إلى بعض تلك النماذج لغرض التدليل على أن التثقف بثقافة الالتزام ممكن في كل جوانب الحياة.

ونماذج الالتزام الموجودة في حياتنا كثيرة منها ما هو القسري ، ومنها ما هو الاختياري .

والالتزام القسري لا يهمنا كثيراً لأنه يتعلق بسنن أخرى ليس لنا التحكم فيها ومن تلك النماذج،التزام الدورة الدموية بالحركة المنضبطة والمستمرة ، والتزام كل أعضاء الجسم بأداء أدوارها دون تقصير .

أما نماذج ثقافة الالتزام الاختياري فمنها ما هو إنساني يشترك فيه كل بني البشر ومن أمثلته .

الالتزام بالامتناع عن المضرات اليقينية إذ لا يوجد إنسان في الدنيا يمكن أن يخالف هذا النظام ،كالامتناع عن تناول السم لأنه يؤدي إلى الموت،أو الامتناع عن الأكل والشرب المهلك إذ أن الامتناع عن الأكل والشرب يؤدي إلى الموت والمخالف لمثل هذه الثقافة نادر جدا.

ومنها ما هو إسلامي وأمثلته كثيرة، فالمسلم يلتزم بأداء الصلاة بأركانها وشروطها وبشكل دقيق وبشكل اختياري صرف، وكذا يلتزم بالصوم، وكذلك يلتزم بكثير من الآداب الإسلامية بشكل اختياري،ومعلوم أن قوة الأمن في العالم الإسلامي- على الجملة- أقل من غيره من البلدان المتقدمة ، ومع ذلك فنسبة الجريمة أقل من البلدان الغربية- مثلا- التي فيها أمن قوي، فعلى سبيل المثال جريمة السطو المسلح على المحلات التجارية ، يندر وجودها في العالم الإسلامي في حين توجد بكثرة في العالم الغربي ، ويوجد أحياء في نيويورك وواشنطن- على سبيل المثال- السمة الغالبة في الجرائم على محلاتها التجارية هو السطو المسلح ، ولا يمر أسبوع إلا وتحدث حادثة من هذا القبيل والسبب ليس غياب الأمن ، وإنما ثقافة الالتزام لدى الأفراد ضعيفة ، أما في العالم الإسلامي، فثقافة الالتزام لدى الأفراد مرتفعة ، فاللص في العالم الإسلامي يقول: مثلاً(أسرق أه أقتل لا) فكثير من اللصوص يفرقون بين السرقة والقتل فإذا علم أن السرقة ستؤدي إلى القتل أحجم، ومعلوم أن السطو المسلح يكون المقاوم فيه مقتولا لا محالة

ومع الضعف الشديد في أجهزة الأمن في بلدان المسلمين إلا أن نسبة الجريمة- كما قلنا- منخفضة فيها بسبب ثقافة الالتزام الفردي .

فقابلية المسلمين لثقافة الالتزام مرتفعة لا تحتاج إلى عنا .

فالمسلم ما إن يُذكر بالله ويُذكر بالحساب يوم القيامة ، والجنة والنار،حتى يرق فإذا صاحب الحملة الإعلامية الإيمانية،عدالة في تطبيق الأحكام فإن النتيجة تكون مذهلة.

ثقافة الالتزام وعلاقتها بالسنن الكونية.

السنن الكونية منضبطة الحركة ، تسير وفق نواميس وقوانين دقيقة ، لو تغيرت بوصلتها لشعرة لحدث الخلل ، فعلى سبيل المثال : نسبة الأكسجين في الماء محددة،ونسبة الهيدروجين محددة ، لو تغيرت النسبة يتحول إلى مادة أخرى، وحركة الشمس دقيقة جدًا واضطراب الحركة يؤثر سلباً على المنظومة أو المجموعة الشمسية بل وعلى مجموعة درب التبانة برمتها .

وقوانين الطاقة تسير وفق نواميس دقيقة ،ووفقاً لثقافة الالتزام يمكن للإنسان أن يستثمر كل طاقات الكون لمصلحته ، وقد أستطاع بالفعل استثمار عدد من الطاقات استثمارا جيداً، ولا يمكن التناغم مع معطيات الطاقة ومفردات الكون إلا بوجود ثقافة الالتزام ؛ لأنها تضع حدودا بين الأفراد وبعضهم وبينهم وبين حكامهم،والمجتمعات مع بعضها، والالتزام بتلك الحدود يمكن الإنسان من استثمار كل ماهو حوله ،أما عند غياب ثقافة الالتزام، فان مكونات المجتمع تنشغل ببعضها وبما يدعم مركز كل مكون،وتنشغل المجتمعات ببعضها،وبالتالي لا يمكن استثمار أي سنة كونية.

مجالات ثقافة الالتزام

تدخل ثقافة الالتزام في كل مجالات الحياة ابتداء من حياة الفرد ثم الأسرة ثم المجتمع ثم الدولة، وبصورة تكاملية، وتقصير أحد مكونات المجتمع في التثقف بثقافة الالتزام يؤدي إلى خلل في مصالحة وعلاقته بالآخرين ومفردات ثقافة الالتزام التي يتطلب الإلمام بها واكتسابها من الفرد كثيرة ، منها الوفاء بالعهد والوفاء بالوعد ، والتزام الصدق وأداء الأمانة، وأي تقصير من الفرد في التزام بمفردات ثقافة الالتزام يخرج الفرد من دائرة الأسوياء إلى دائرة الأشقياء سماه الرسول صلى الله عليه وسلم منافقاً كما في حديث: (أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا أؤتمن المطلوب وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر) والأصل في ثقافة الالتزام لدى الفرد أن لا يتأثر بتخلفها لدى الغير،لأن الحساب في المفهوم الإسلامي على مفردات ثقافة الالتزام فردي فكل فرد مسئول مسئولية كاملة عن تصرفاته مسئولية فردية.

والفرد في موقعة مسئول عما بين يديه مسئولية تامة ، فهو مسئول على نفسه، وهو زوج مسئول عن زوجه ، وهو أب مسئول عن أبنائه ، وهو أبن مسئول عن أبويه ، وعندما يخرج عن هذه الدوائر، فإذا كان موظفاً فهو مسئول عن مفردات ثقافة الالتزام التي يتطلبها موقعة الوظيفي، وتقصير غيره لا يبرر تقصيره فالمسئولية شخصية،وهو معلم، وهو مدير ، وهو وزير ، وهو قائد ، وهو شيخ وهو ناظر،وهو عاقل …الخ (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)أي مسئول عما هو مكلف به.

وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى مسألة التزام الفرد ومسئوليته عندما قال : (لا تكونوا إمعة تقولون: إن أحسن الناس أحسنا وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا فلا تظلموا).

ويشير النبي صلى الله عليه وسلم في حديث حذيفة إلى ضرورة التثقف بثقافة الالتزام في جزئية من الجزئيات:(قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك) وهو بهذا يشير إلى أن الفرد يلتزم أو يتثقف بثقافة الالتزام ولو لم يكن إلا هو بمفرده أو ليس بجواره إلا شجرة. ويشير إلى أنه لا بد أن يعيش مع الالتزام، ولو لم يكن في الحياة أحد ملتزما.

 ويشير القرآن إلى وجوب نشر ثقافة الالتزام ولو لم يستجب أحد قال تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ﴾ (المائدة/105). فالمتثقف بثقافة الالتزام لا يضره من كان منحرفاً طالما بقى متخلقاً بهذه الثقافة.

والقرآن الكريم ينبه ويبين أن ثقافة الالتزام عملية وأن الفعل هو الأساس ولو كان الكلام جيد، وإن الكلام قد يكون عبء على قائله، إذا لم يطابق الفعل قال تعالى:﴿ ياأيها الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ﴾ (الصف2/3).

فلا يكفي أن يقول الإنسان كلاما جيداً، بينما يكفي أن يعمل عمل جيداً ولو لم يتكلم ولهذا وصفت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت:(كان خلقه القرآن، ثم قرأت ﴿وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ﴾ (القلم/3)) وهذا هو الأهم في ثقافة الالتزام الفعل قبل القول .

الآثار الإيجابية للتخلق بثقافة الالتزام.

وصول القطار إلى غايته بسلام مرهون بسيره سيراً دقيقاً على قضبان الحديد والآثار الإيجابية لثقافة الالتزام كالآثار الإيجابية لسير القطار على قضبانه بدقه و يمكن إجمال هذه الآثار في الآتي .

أولاً : التوفير في ثلاثي الإنجاز(الوقت،والجهد،والمال).

ولكي نوضح المسألة نفترض أن لدينا مؤسستان تم تأسيسهما برأس مال متساو وكان غايتهما واحدة ، والبيئة والبقعة الجغرافية واحدة، غير أن الفرق بين المؤسستين أن إحدهما يديرها فريق مسلح بثقافة الالتزام، والأخرى يديرها فريق غير مسلح بهذه الثقافة ، فإذا أفتر ضنا أن المؤسستان تقومان بأعمال الشق والسفلتة .

فالمؤسسة التي تدار بفريق متخلق بثقافة الالتزام ستنجز مهامها بكلفة أقل ووقت وجهد أقل أيضاً،وإتقان عال .

أما المؤسسة التي تدار بفريق غير متخلق بثقافة الالتزام فالمترجح أنها لا تنجز وإذا أنجزت فبجهد أكبر،وبمال أكثر، وبوقت أطول وبإتقان منخفض جداً . فكل المشاريع المسلمة للمؤسستين يحكمها ثلاثي الإنجاز المال،والجهد، والوقت فإذا تم الإخلال بمحددات أي مشروع ستكون النتيجة سلبية. وبغير ثقافة الالتزام لا يمكن السيطرة على أي عنصر من عناصر الإنجاز وسيكون الفشل هو الحليف الطبيعي لمن لم يتثقف بثقافة الالتزام

ثانياً : سيادة الأمن والطمائنينة .

بثقافة الالتزام ، يسود الأمن وتتحقق الطمائنينة ، لان كل فرد يسير وفق قاعدة (عرف حقه ووقف عنده).

ولن يكن ثمة من يخشى على حياته أو على حقه (حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه)

فقد سادة ثقافة الالتزام في يثرب (المدينة المنورة) في أيام الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، حين عين أحد الصحابة قاضياً عليها ، وبعد عام جاءه بتقرير أنه لم يتقاضى لديه أحد ، فقال: وليتني على قوم كل وأحد منهم عرف حقه ووقف عنده.

ثالثاًَ : تماسك المجتمع واستعصائه على الاختراق .

اختراق المجتمع لا يتم إلا أذا وجدت النتؤات في المجتمع ذاته ، أما إذا لم يكن ثمة نتؤات فلن يحدث الاختراق . ومفردات ثقافة الالتزام تسهم في بناء المجتمع بناءً محكماً يمنع تآكل المجتمع ، ومن ثم يستعصى على الاختراق. فإذا ما أختلت ثقافة الالتزام، ضعف البناء،سهل الاختراق، وإذا ما حدث الاختراق أمكن تفتيت المجتمع والعبث به بل وتغيير كل مكوناته.

وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى تماسك المجتمع وشبهه بسفينة : (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا:لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا، ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن يأخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا) فالإخلال بثقافة الالتزام ولو بحسن نية يجلب الدمار ، والتمسك بها يؤدي إلى النجاة والعمار .

ويصعب اختراق المجتمع المتماسك لأنه مجتمع متظافر متعاون وقد صورة الشاعر

                        تأبى العصي إذا اجتمعن تكسراً                        وإذا افترقن تكسرت آحاداً

الآثار السلبية لغياب ثقافة الالتزام

ثمة آثار سلبية مدمرة لغياب ثقافة الالتزام على المستوى الفردي والجماعي،سنتناولها على النحو الآتي.

أولا: على مستوى الفرد.

غياب ثقافة الالتزام في الفرد تعود عليه بالوبال ويكون أول ضحايا تفلته وعدم تثقفه بثقافة الالتزام ويحدث له الكثير من الآثار السلبية أهمها:

1-      تضعف هيبته وتقل قيمته، فلا يمكن أن يبقى لفاقد ثقافة الالتزام مكانة ولا هيبة في المجتمع ويصل الأمر إلى حد احتقاره وذهاب مركزه الاجتماعي( المعنوي) وينعت بأسوأ النعوت مثل الكذاب والخراط ومخلف الوعد، المنافق… وغيرها من النعوت التي يأنف العقلاء من الاتصاف بها .

2-      انعدام الثقة به وبما يطرح أو يعد،فيصبح غير موثوق به وغير مقبول وتتأثر عدالته وقبوله عضوا فاعلا في المجتمع ،وقد يصل الأمر إلى إسقاط شهادته وعدم قبول ضماناته وكفالته وينتهي جاهه في المجتمع بل وبين أهله وذويه، فيحجم الكل عن التعامل معه، وينبذ في المجتمع ،ويصل الأمر حد العزل.

ثانيا: على مستوى المجتمع.

وغياب في ثقافة الالتزام في المجتمع يقود إلى آثار سلبية كثيرة أهمها:

1- ضياع الحقوق،وفقدان الاطمئنان وتسلط الأهواء وتحكم المزاج المتقلب ولجوء الفرد إلى حماية حقه بنفسه لعدم ثقته بمن حوله.

2- فقدان الثقة بالمجتمع من قبل المجتمعات الأخرى ،وإحجام المجتمعات الأخرى عن التعامل مع المجتمع ضعيف الالتزام ،وقد يصل الأمر إلى المقاطعة والحرمان من الكثير من المزايا.

3- تمزق المجتمع إلى كتل ذات مشاريع خاصة ،وتضيق مساحة القواسم المشتركة وتتسع عوامل الخلاف وتتنوع المطالب القاصرة، ويضعف الفعل –الايجابي- المتعدي ،ويقوى الفعل القاصر،ويتكتل الناس وفقا لما يخدم مصالحهم الضيقة ويصل الأمر إلى أن يتقسم المقسم،ويصبح المجتمع الواحد مجتمعات، والدولة الواحدة دول، والبلد الواحد بلدانا.

4- حدوث الانفصام بين تطلعات أفراد المجتمع وتوجهات حكامه،ويفقد الفرد الثقة في من يحكمه ويبحث لنفسه عن مخارج وبدائل تكون – في الغالب- سلبية.

5- ضعف المناعة في المجتمع وتسهل عملية الاختراق الفكري والاقتصادي والسياسي له،وتتاح الفرصة لقوى ذات أجندة خاصة لتلعب أدوارا سلبية وتوجه المجتمع بالاتجاه الخطأ.

6- ضعف القدرات الإنتاجية مع انعدام إسهام الفرد في تنمية الثروة القومية في المجتمع،لأن غياب ثقافة الالتزام تؤدي إلى غياب مبدأ الثواب والعقاب ويتساوى المحسن والمسيء، ويتحول الفرد إلى باحث عن ذاته بعيدا عن احتياجات المجتمع وتطلعاته.

وأخيرا إذا لم نقدر مكانة وأهمية الالتزام في الحياة، فإننا نسبح خلاف التيار ونلهث وراء سراب، ولا عزاء للمتفلتين والمهملين .

——————————

المصدر : ينابيع تربوية : http://www.yanabeea.net/details.aspx?pageid=6110&lasttype=2


أضف تعليق

التصنيفات